فصل: فصل في بيان صلاة صَاحِبِ القَلْبِ العَامِرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.كتاب الصلاة:

.تعريف الصلاة وبيان فضلها:

الصّلاةُ لغةً: الدّعاءُ قَال اللهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}، والصّلاةُ في الشّرع: أَقْوالٌ وَأَعْمَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحةٌ بالتَّكْبِير مُخْتتمة بالتَّسْلِيم وَسُمّيتْ صَلاةٌ لاشْتِمالِها على الدُّعاءِ، وقِيلَ: لأنها ثانيةُ الشّهادتين، وقيل: لأنها صِلةٌ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِهِ.
وقيل: لما تَتَضَمّنُ من الدّعاءِ والخُشُوع والخَشْيَةِ، وقيل: لأَنَّ المُصَلِّي يَتْبعُ مَن تَقَدَّمَهُ، والصّلاة عِمَادُ الدّين، قال في مَراصِد الصّلاة للقَسطلاني: الحِكْمةُ في فَرْض الصَّلاة وَتَخْصِيصِهَا بالخَمْس، أحَدُهَا: أنّ الأنْفُسَ البَشَريّةَ الْمُقْتَضِيةَ للشَّهْوةِ والغفلةِ والسَّهوِ والنسّيانِ والشّره في العَمَلِ والفْتَرةِ عَنْهُ فاقْتضتْ الحِكْمةُ أن تذكر نِسيَانَها وَتُوقظَ غَفَلَتَهَا وَتُقْمَعَ شَهْوتَهَا بقَطعِهَا عن عاداتِها ومَنُاجَاتِها الذي كَفَلها بنعَمِهِ وغَذّاها بجُوده وَكَرمِهِ ولعلْمِهِ بِضَعفِ قُواها لم يَجْعل هَذِهِ العِبَادَةَ إلا في أَوْقَاتٍ يَكْثُرُ الْفَرَاغُ فِيهَا مِن إشْغَالِ العَادَاتِ وهذا هُوَ الحكمةُ في تَنْقِيصِهَا مِن الخَمْسِين إلى الخمس.
والوجه الثاني: أن العبدَ في هذِه الدارِ يَعْمَلُ لِنَجَاتِهِ في الدارِ الأَخْرَى وهِيَ مُشْتَمِلةٌ على أَهْوَالٍ وَمَشَاقٍ وَمَتَاعِبَ وأَمَامَ العبدِ دُونَهَا خَمْسُ عَقَبَاتٍ: الأولَى: الدُّنيا وشرُورُهَا وآفَاتُهَا ومَحْذُورَاتُها وَشَوَاغلُها وَعَلائِقُهَا القاطِعَةُ عن مَزيدِ السَّعَادَةِ. الثانيةُ: الموتُ وما يُخْشَى مِن فِتْنَتِهِ وشِدَّةِ سَكَرَاتِهِ وما يُشَاهَدُ عندَهُ مِن الأُموِر العِظَامِ والآلامِ الجسَامِ. الثالثة: الْقَبْرُ وضَيْقَتُهُ وَوَحْشَتُهُ وَسُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِير، وذَلك صَعْبٌ خَطِيرٌ. الرابعةُ: المَحْشِرُ: وَهو لَهُ وَما فِيهِ مِن الخَوفِ الشَّدِيدِ والْفَزَعِ الأكِيدِ. الخامسةُ: الحِسَابُ وما يُخْشَى فيه بَعْدَ العِتابِ من وُقُوعِ العِقابِ فكان فِعْلُ الصَّلوَاتِ الخَمْسِ مُسَهِّلاً لِهَذِهِ العَقباتِ مُحَّصِّلاً لِنَيلِ المَسَرَّاتِ في دَارِ الكَرَامَاتَ وَهِيَ أَجلُّ مَبَانِي الإِسْلامِ بَعْدَ الشَّهَادتَيْنِ وَمَحَلُّهَا مِن الدِين مَحَلُ الرأسِ مِن الجَسَدِ فَكَمَا أَنَّهُ لا حَيَاةَ لِمَنْ لا رَأَسَ لَهُ، فَكَذَلِكَ لا دِينَ لِمَنْ لا صَلاة لَهُ.
وَهِيَ خَاتِمَةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ مِن الدُّنيا فَعَن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفاةٌ وَهُوَ يُغَرْغِرَ بِنَفْسِهِ: «الصلاةَ وما مَلَكَتْ أَيمانُكُم». رواه أحمد، وأبو داود.
وهيَ أوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الحديثُ عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمعتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ». الحديث أخرجه الترمذي.
وهِيَ أَكْبَرُ عَوْنٍ لِلْعَبْدِ على مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
فَبِمُدَاوَمَةِ العَبْدِ عَلى الصَّلاةِ تَقْوَى رَغْبَتُهُ في الخَيْرِ وَتَسهُلُ عليهِ الطاعاتُ وَتَهُونُ عَليهِ المشَاقُ وَتَسْهُلُ عليهِ المصائِبُ وَيُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ وَيُبَارِكُ لَهُ في مَالِهِ وأَعْمَالِهِ وَتَنْهَاهُ عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ كَمَا قال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} الآية. وفي الصحيح المتفق عليه مِن رواية أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا». وَوَرَدَ مِن حَديثِ ثوبانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قَال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا واعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمَالِكُم الصَّلاةُ ولا يُحافِظُ على الوضوءِ إلا مُؤمِنُ»، وعن عثمانَ بن عَفَّان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا من امْرئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةَ مَكْتُوبَةٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وخُشُوعَهَا ورُكُوعَهَا إلا كانَتْ كَفَارَةً لِما قَبْلَهَا مِنَ الذُنُوبِ مَا لَم تَؤْتَ كَبِيرَةٌ وذلكَ الدّهْرَ كُلَّهُ».
وفي البخاري، ومسلم عن ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ فَقَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ عن رجلٍ من أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّ العَمَل أفْضَلُ؟ قال: سَمِعْتُهُ قال: «أَفْضَلَ العَمَلِ الصلاةُ لِوَقْتِهَا وبِرُّ الوالِدَين والجهَاد». ورواته محتج بهم في الصحيح.
اللَّهُمَّ ثبّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسَنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا وَأعِذْنَا مِنْ عَدُوِّك وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.

.فصل في بيان صلاة صَاحِبِ القَلْبِ العَامِرِ:

قال ابنُ القَيمِ رَحِمَهُ اللهُ: إذَا وَقَفَ في الصَّلاةِ صَاحِبُ القَلْبِ العَامِرِ بِمَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ والرَّغْبةِ فِيه وإجْلالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَقَفَ بِقَلْبٍ مُخْبِتٍ خَاشِعٍ لَه قَرِيب مِنْهُ سَلِيمٍ مِن مُعَارَضَاتِ السُوءِ قَدْ امْتَلأتْ أرْجَاؤه بالهَيْبَةِ وَسَطَعَ فَيهِ نُورُ الإِيمانِ وَكُشِفَ عَنْهُ حِجَابُ النَّفْسِ وَدُخَانُ الشَّهواتِ فَيَرْتَعُ في رِياضِ مَعَانِي القُرْآنِ وخَالَطَ قَلْبَهُ بَشَاشَةُ الإِيمانِ بِحَقَائِقِ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ وَعُلُّوِهَا وَجَلالِهَا الأَعْظَمِ وَتَفَرُّدِ الربِ سُبحَانه بِنُعُوتِ جَلالِهِ وصفاتِ كَمَالِهِ.
فاجْتَمَعَ هَمُّهُ على اللهِ وَقرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ وأَحَسَّ بقُرْبِهِ مِن اللهِ قُرْبًا لا نَظِيرَ لَهُ فَفَرَّغَ قَلْبَهُ لَهُ وأَقْبَلَ عَليهِ بِكُلِّيتِهِ وَهَذَا الإِقْبَالُ مِنهُ بَيْنَ إقْبَالَينِ مِن رَبّهِ فإنه سبحانَهُ أَقْبَلَ عليهِ أَوَّلا فانْجَذَبَ قَلْبُهُ بإقْبَالِهِ فلمّا أَقْبَلَ على رَبِّهِ حُظِيَ مِنْهُ إِقْبَالاً آخَرَ أَتَمَّ مِن الأَوَّلِ.
وهَا هُنَا عَجِيبَةٌ مِن عَجَائِبِ الأسْمَاءِ والصفاتِ تَحْصُلُ لِمَنْ تَفَقَّهَ قَلْبُه في مَعَانِي القُرآنِ وَخَالَطَ بَشَاشَةَ الإِيمانِ بها قَلْبُهُ بحَيْثُ يَرَ لكمْ اسْمٍ وصفةٍ مَوْضِعًا مِن صَلاتِهِ وَمَحَلاً مِنها فإذَا انْتَصَبَ قائمًا بَيْنَ يَدَيْ الربِ تبَاركَ وتعالَى شاهَدَ بِقَلْبِهِ قَيومِيَّتَهُ وإذا قال: الله أكْبَرُ شاهَدَ كِبْرِياءَهُ.
وإذا قال: سبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ وَتَبَاركَ اسْمُكَ وتَعَالَى جَدُّكَ ولا إلهَ غَيْرَكَ شاَهد بِقَلْبِهِ رَبًا مُنَزَّهًا عَن كُلِّ عَيْبِ سَالِمًا مِن كُلِّ نَقْصٍ مَحْمًودًا بِكُلِ حَمْدٍ فَحَمْدُهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بِكلِ كَمَالٍ وَذلك يَسْتَلزِمُ بَرَاءَتَهُ مِن كُلِّ نَقْصٍ تَبَارَكَ اسْمُهُ فَلا يُذْكْرُ على قَلِيلِ إِلا كَثَّرَهُ ولا عَلى خَيْرٍ إِلا أَنْمَاه وَبارَكَ فيهِ ولا على آفةٍ إِلا أذْهَبَهَا ولا على الشيطانِ إِلا طَرَدَهُ خَاسِئًا دَاحِرًا وكمالُ الاسْمِ مِن كَمَال مُسَمَّاهُ فإذا كانَ هذا شأنُ اسْمِهِ الذي لا يَضُرُّ مَعَهُ شيءٌ في الأَرضِ ولا في السماءِ فَشَأْنُ المُسَمَّي أَعْلا وأجَلُ وتعالى جَدَّهُ أَيْ ارْتَفَعَتْ عَظَمَتُه وَجَلَّتْ فَوقَ كُلِّ عَظَمَةٍ وَعَلا شَأْنُهُ عَلى كُل شأنٍ وَقَهَرَ سُلْطَانُه على كُلِّ سُلْطَانٍ فَتَعَالَى جَدُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَرِيكَ فِي مُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ أَوْ فِي إلهيَّتِهِ أَوْ فِي صِفَاتِهِ كَمَا قَالَ مؤمِنُوا الجِن وأَنَّهُ تعالى جد ربنا ما اتخذَ صَاحِبَةً ولا ولدًا فكَمْ في هَذِهِ الكلماتِ مِن تَجلّ لِحَقَائِقَ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ على قَلْبِ العارِفِ بِها غَيْرِ المُعَطّلِ لِحَقَائِقِها وإذَا قَالَ: أعُوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ فقد آوى إلى رُكْنِهِ الشَّدِيدِ واعتصَمَ بحَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ من عَدُوّه الذي يُرِيدُ أَن يَقْطَعَهُ عن رَبِهِ وَيُبَاعِدَهُ عن قرْبِهِ لِيَكُونَ أَسْوَأَ حَالاً.
فإذَا قَالَ: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَفَ هُنَيْهَةً يَسِيرَةً يَنْتَظِرُ جَوَابَ رَبِّهِ لَهُ بِقولِهِ: حَمِدَنِي عَبْدِي. فإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، انتظرَ الجَوابَ بِقولِهِ: أثْنَى عَليَّ عَبْدِي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، انتظرَ جَوَابَهُ بِقولِهِ مَجَّدَنِي عَبْدِي.
فَيَا لَذَّةَ قَلْبِهِ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِقَولِ رَبِّهِ: عَبْدِي ثلاَث مرَّاتٍ فَواللهِ لَولا مَا عَلَى القُلُوبِ مِنْ دُخَانِ الشَّهَواتِ وغَيْمِ النُّفُوسِ لاسْتُطِيرتَ فَرَحًا وَسُرُورًا بقولِ رَبَها وَفَاطِرِهَا وَمَعْبُودِهَا حَمِدَنِي عَبْدِي وأَثْنَى عَليَّ عَبْدِي وَمَجَّدَنِي عَبْدِي ثُمَّ يَكُونُ لِقَلْبِهِ مَجَالٌ مِن شُهُودِ هَذِهِ الأسْمَاءِ الثلاثةِ التي هِيَ أُصُولُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى وَهِيَ: اللهُ، والربُّ، والرحمنُ فَشَاهَدَ قَلْبُهُ من ذِكْرِ اسْمِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلهًا مَعْبُودًا مَوْجُودًا مَخْوفًا لا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَلا تَنْبَغِي إِلا لَهُ قَدْ عَنَتِ لَهُ الْوُجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ المَوْجُودَاتُ وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتِ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِنْ مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}.
وكذالكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلقَ الجِنَّ والإنْسَ والطيرَ والوحشَ والجنةَ والنارَ وكذلك أرسلَ وأَنْزَلَ الكتبَ وَشَرَعَ الشرائعَ وألْزَمَ العِبَادَ الأمرَ والنَّهْيَ.
وَشَاهَدَ مِن ذِكْرِ اسْمِهِ رَبَّ العالمين قَيُّومًا قَامَ بِنَفْسِهِ وقَامَ بِهِ كُلُ شَيءٍ فَهُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِ نَفْسٍ بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا قَدْ اسْتَوى على عَرْشِهِ وَتَفَرَدَ بِتَدْبِيرِ مُلْكِهِ فالتَّدْبِيرُ كُلُّهُ بِيَدِهِ مَصِيرُ الأُمُورِ كُلِّهَا إِليهِ فَمَراسِيمُ التَّدْبِيرَاتِ نَازِلَةٌ مِن عِنْدِهِ عَلَى أَيْدِي مَلائِكَتِهِ بالعَطَاءِ والمَنْعِ والخَفْضِ والرَّفْعِ والإِحْياءِ والأَمَانَةِ والتَّوْبَةِ والْعَزْلِ والْقَبْضِ والْبَسْطِ وَكَشْفِ الْكُرُوبِ وإِغَاَثُةِ الْمَلْهُوفِ وإِجَابَةِ الْمُضْطَرَِينَ {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ولا رَادَّ لأمْرِهِ ولا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِِهِ تَعْرُجُ الملائِكةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ وَتُعْرَضُ الأَعْمَالِ أَوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ عليهِ فَيُقَدِّرُ الْمَقَادِيرِ وَيُوَقِّتُ الْمَوَاقِيتَ ثُمَّ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلى مَوَاقِيتِهَا قَائِمًا بِتَدْبِيرْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَحِفْظِهِ وَمَصَالِحِهِ.
ثم يَشْهَدُ عندَ ذِكْرَ اسْمِهِ الرَّحْمَن جَلَّ جَلالُهُ رَبًّا مُحْسِنًا إِلى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ مُتَحَبِبًّا إِليهم بصُنُوفِ النِّعَمِ وَسَعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا وأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلاً فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ كُلَّ حَيٍ فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ فاسْتَوَى على عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِرَحْمَتِهِ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ والنارَ أيضًا بِرَحْمَتِهِ فإِنها سَوْطُهُ الذي يَسُوقُ بِهِ عِبَادَهُ المؤمنينَ إلى جَنَّتِهِ وَيُطَهِّرُ بِهَا أدْرَانَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَسِجْنُهُ الذي يَسْجِنُ فيهِ أَعدَاءَهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ.
فَتَأَمَّلْ مَا في أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَصَايَاهُ وَمَوَاعِظِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ الْبَالِغَةِ والنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَمَا فِي حَشْوِهَا مِنَ الرَّحْمَةِ والنَّعِمْةِ فَالرَّحْمَةُ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُ بِعِبَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُمْ بِهِ فَمِنْهُمْ إِليهِ الْعُبُودِيَّةُ وَمِنْهُ إِليهِم الرَّحْمَةُ.
وَمِنَ أَخَصَّ مَشَاهِدِ الاسْمِ شُهُودُ الْمُصَلِّي نَصِيبُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ الذِّي أَقَامَهُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَأَهَّلَهُ لِعُبُودِيَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَأَعْطَاهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِهِ.
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَهُنَا شَهِدَ الْمَجْدَ الذي لا يَلِقُ بِسَوى الْمَلكِ الحَقِ الْمُبِينَ فَشَهِدَ مَلِكًا قَاهِرًا قَدْ دَانَتْ له الْخَلِيقَةُ وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ وَذَلَّتْ لِعَظَمَتِهِ الْجَبَابِرَةُ وَخَضَع لِعِزَّتِهِ كُلُّ عَزِيزٍ فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ مَلِكًا عَلى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنُا لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ وإِذَا لَمْ تُعَطَّلْ صِفَةٌ حَقِيقَيْةً صِفةَ الْمُلْكِ أَطْلَعَتْهُ عَلى شُهُودِ حَقَائِقِ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ التي تَعْطِيلُهَا تَعْطِيلٌ لِمُلْكِهِ وَجَحْدٌ لَهُ فَإِنَّ الْمَلكَ الْحَقَّ التَّامَّ الْحَقَّ لا يَكُون إِلا حَيًّا قَيُّومًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُدَبِّرًا قَادِرًا مُتَكَلِّمًا آمِرًا نَاهِيًا مُسْتَوِيًا عَلى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ يُرْسِلُ إِلى أَقَاصِي مَمْلَكَتِهِ بأوامِرِهِ فَيَرْضَى على مَنْ يَسْتَحِقَ الرِّضَا وَيُثِيبُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُدْنِيهِ، وَيَغْضَبُ عَلى مَنْ يَسْتَحِقُ الْغَضَبَ وَيُعَاقِبُهُ وَيُهِينُهُ وَيُقْصِيهِ وَيَقْصِي مَن يَشَاءُ، لَهُ دَارُ عَذَابِ وَهِيَ النَّارُ وَلَهُ دَارُ سَعَادَةٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ. فَيُعَذِبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَيُعْطِي مَن يَشَاءُ وَيُقَرِّبُ مَن يَشَاء.
فَمَنْ أَبْطَلَ شَيْئًا مِن ذَلكَ أَوْ جَحَدَهُ وأَنْكَرَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ قَدَحَ فِي مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى وَنَفى عَنْهُ كَمَا لَهُ وَتَمَامَهُ.
وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ عُمُومَ قَضَائِه وَقَدَرِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عُمُومَ مُلْكِهِ وَكَمَالِهِ فَيَشْهَدُ الْمُصَلِّي مَجْدَ الربِ تَعاَلَى فِي قَولِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَفِيهَا سِرُّ الْخَلْقِ والأَمْرِ والدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةُ لأَجَلِّ الْغَايَاتِ وأفضلِ الْوَسَائِلِ.
فأَجَلُّ الْغَايَاتِ عُبُودِيتُهُ وَأَفْضَلُ الْوَسَائِلَ إِعَانَتُهُ فَلا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلا هُوَ ولا مُعِينَ على عِبَادَتِهِ غَيرُهُ فَعِبَادَتُهُ أَعْلَى الْغَايَاتِ وإِعَانَتُهُ أَجَلُّ الْوَسَائِلِ وَقَدْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى مائة كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيهَا فِي أَرْبَعَةِ. وَهِيَ: التَّوْرَاةُ، والإِنْجِيلُ، والْقُرْآنُ، والزَّبُورُ. وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْفَاتِحَةِ وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
وقد اشْتَمَلَتْ هذِهِ الْكَلِمَةُ على نَوْعَيْ التَّوْحِيد وَهُمَا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ وَتَضَمَّنَتْ التَّعَبُدَ باسْمِ الربِ واسمِ اللهِ فَهوَ يُعْبَدُ بالأُلُوهِيَّةِ وَيُسْتَعَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَيَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِرَحْمَتِهِ فكانَ أوَّلُ السُّورَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ والربِّ والرحمنِ تَطَابَقًا لأَجْلِ الْمَطَالِبِ مِن عِبَادِتِهِ وَإِعَانَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَهو الْمُنْفَرِدُ بإعْطَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ لا يُعِينُ عَلى عِبَادَتِهِ سِوَاهُ وَلا يَهْدِي، سِوَاهُ ثُمَّ يَشْهَدُ الدَّاعِي بَقَوْلِهِ: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} شِدّةَ فَاقَتِهِ وَضَرُورَتِهِ إِلى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التي لَيْسَ هُو إلى شيءٍ أَشَدَّ فاقةً وَحَاجَةً مَنْهُ إِليهَا الْبَتَةَ فإنَّه مُحْتَاجٌ إِليه في كُلِ نَفَسٍ وَطَرفَةِ عَيْنٍ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ مِن الدُّعَاءِ لا يَتِمُ إلا بالهِدَايَةِ إلى الطَّرِيقِ المُوصِلُ إِليْهِ سُبْحانَهُ والْهِدَايَةِ فيهِ أيْ هِدَايَةِ التَّفْصِيلِ وَخَلْقِ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ وَتَكْوِينِهِ وَتِوْفِيقِهِ لإِيقَاعِهِ عَلى الْوَجْهِ الْمَرْضِي الْمَحْبُوبِ للرَّبِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحِفْظِهِ عَليهِ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ حَالَ فِعْلِهِ وَبَعْدَ فِعْلِهِ.
وَلَمَّا كاَنَ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا فِي كُلّ حَالٍ إِلى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلى غَيرِ الْهِدَايَةِ فَهو يَحْتَاجُ إِلى التَّوْبَةِ مِنْهَا.
وأُمُورٍ هُدى إِلى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا أَوْ هُدِيَ إِليهَا مِن وَجْهِ دُونَ وَجْهٍ فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدَى.
وأُمُورٍ يَحْتَاجُ إِلى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِن الْهِدَايَةِ فِيهَا بالْمُسْتَقْبَلِ مِثلَ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي.
وَأُمُورٍ هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلى الهِدَايَةِ فِيهَا.
وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ.
وأُمُورٍ قَدْ هُدِي إِلى الاِعْتِقَادِ الْحَقِّ والْعَمَلِ والصَّوابِ فِيهَا فهو مُحْتَاجُ إِلى الثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلى غَيْرِ ذَلكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ.
فَرَضَ اللهُ سبحانَهُ عليه أنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ في أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ ثم بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُمْ الْمُخْتَصُوَن بِنِعْمَتِهِ دُونَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الذَّيْنَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَدُونَ الظَّالِينَ وَهُمْ الذينَ عَبَدُوا اللهَ بِغَيرِ عِلْمٍ فَالطَّائِفَتَانِ اشْتَرَكَتَا فِي الْقَوْلِ فِي خَلْقِهِ وَأمْرِهِ وأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِغَيرِ عِلْمٍ فَسَبِيل ُالْمُنْعِمْ عَلَيْهِم مُغَايرَةُ لِسَبِيلِ أَهْلِ البَّاطلِ كُلِّهَا عِلْمًا وَعَمَلاً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا الثَّنَاءِ والدُّعَاءِ والتَّوحِيدِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَطْبَعَ عَلَى ذَلكَ بِطَابع مِنْ التأمِينِ يَكُونُ كالخَاتِمِ لَهُ وَافقَ فِيه مَلائِكَةَ السَّماءِ وهذا التأمِينُ مِن زِينَةِ الصلاةِ كَرَفْعِ اليدِيْنِ الذِي هُوَ زِينَةُ الصلاةِ وإتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَتَعْظِيمَ أَمْرِ اللهِ وَعُبُودِيَةُ الْيَدَيْنِ وَشِعَارُ الاِنْتِقَالِ مِن رُكْنٍ إِلى رُكْنٍ ثُمَّ يَأَخُذُ فِي مُنَاجاَةِ رَبِّهِ بِكلامِهِ واسْتِمَاعِهِ مِنْ الإِمَامْ بالإِنْصَاتِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَشُهُودِهِ.
وقال رحمه الله: والقول الجامع في تفسير الصراط المستقيم: أنه الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، ولا طريق لهم سواه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسله بالطاعة، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون إرادة إلا متعلقة بمرضاته، وهذا هو الهدى وهو معرفة الحق والعمل به وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها.
وقال: والطريق إلى الله واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إلى الله فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه إلى ربه طريق العلم والتعليم قد وفر عليه زمانًا مبتغيًا به وجه الله فلا يزال عاكفًا على طريق العلم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه، ومنهم من يكون سيد عمله الذكر، ومنهم من يكون طريقه الإِحسان والنفع المتعدى، ومنهم من يكون طريقه الصوم، ومنهم من يكون كثرة تلاوة القرآن، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من يكون طريقه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم الجامع الفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبودية قبلة قلبه ونصب عينيه وقد شارك أهل كل عمل وذلك فضل الله.
وقال رَحِمَهُ اللهُ ولما كان طالبُ الصراط المستقيم طَالِبَ أَمْرٍ أَكْثَرُ النَّاسِ نَاكِبُونَ عَنْهُ، مرِيدًا لِسُلُوكِ طَرِيقٍ مُرَافِقُهُ فيها في غَايَةِ الْقِلَّةِ والْعِزَّةِ، والنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ علَى وحْشَةٍ التَّفَرُّدِ، وعلى الأنس بالرفيق.
نَبَّهَ اللهُ سُبْحَانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنَّهمُ هم الذين {أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}.
فأَضَاف الصِّرَاطَ إلى الرفِيقِ السالِكينَ لَهُ، وهُم الذين أَنْعَم اللهُ عليهم، لِيزُولَ عَن الطالِبِ لِلْهِدَايَةِ وسُلُوكِ الصِّرَاطِ وحْشَةُ تَفَردُّهِ عن أهِل زَمَانِهِ وبَنِي جِنْسِهِ، وَلِيَعْلم أَنْ رَفِيقَهُ في هَذا الصراط هم الذين أَنْعم اللهُ عليهم.
فلا يَكْتَرِثْ بِمُخَالَفَةِ النَّاكِبينَ عنه لَهُ فإنهم هم الأقَلُونَ قَدْرًا وإن كانوا الأكْثَرِينَ عَدَدًا، كما قَالَ بعضُ السلفِ: عليكَ بطريق الحقِّ ولا تَسْتَوحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِين، وَإيَّاكَ وَطَرِيقَ البَاطِلَ وَلا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ.
وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ في تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إلى الرَّفِيقِ السَّابِقِ وَاحْرِصْ عَلَى اللِّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ مَنْ سِوْاهُمْ فَإِنَّهُمُ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ في طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ.
قَالَ وَلَمَّا كَانَ سُؤالُ اللهِ الْهِدَايةِ إِلى الصَّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ أَجَلَّ الْمَطَالِبِ، وَنَيْلُهُ أَشْرَفَ الْمَوَاهِبِ عَلَّمَ اللهُ عِبَادِهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ، وأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَمْدَهُ والثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدَهُ.
ثم ذَكَرَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَتَوْحِيدَهُمْ فَهَاتَانِ وسِيلَتَانِ إِلى مَطْلُوبهم تَوَسُّلٌ إِليه بأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوسُّلٌ إِليه بِعُبُودِيَّتِهِ وَهَاتَان الْوَسِيلَتَان لا يَكَادُ يُرَدُّ مَعْهُمَا الدُّعَاءُ.
ويُؤيِّدْهُما الْوَسِيلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي حَدِيثَيْ الاسْم الأعظم اللَّذَيْنِ رواهما ابن حبَّان في صَحِيحه، والإِمام أحمد، والترمذي.
أَحَدُهما: حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عن أبيه قال سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بأني أَشْهَدُ أَنَّكَ اللهُ الذي لا إِلهَ إلا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولم يكن له كُفْوًا أحَد.
فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ الله باسْمِهِ الأَعْظَمْ الذي إذا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وإذا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى». قال الترمذيُ: حَدِيثٌ صحيح.
فهذا تَوَسُّلٌ إلى الله بتَوحِيدِهِ، وشَهَادَةِ الدَّاعِيَ لَهُ بالْوَاحْدَانِيَّةِ وثبوتِ صِفاتِهِ المدلُولِ عليها باسمِ الصَّمَدِ.
وهو كما قال ابن عباس: العَالِمُ الذي كَمُلَ عِلْمُهُ القادِرُ الذي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ وفي رواية: هو السيدُ الذي قَدْ كَمُلَ فيه جَمِيعُ أنواعِ السؤدَدِة.
وقال سعيد بن جبير: هو الكاملُ في جَميعِ أَقوالِهِ وَصِفاتِهِ وأفْعالِهِ.
والثاني: حَدِيثُ أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَدْعُو:
اللَّهُمَّ إني أسألكَ بأن لك الحمد لا إله إلا أنْتَ المنان بَدِيعُ السماوات والأرض؛ ذا الجلال والإكرام، يا حَيُّ يا قَيُّوم.
فقال: «لقد سأل الله باسمه الأعظم». فهذا توسل إليه بأسمائِهِ وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما: التوسل بالحمد، والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده.
ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيقٌ بالإجابة.
ونظير هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل. رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس: «اللَّهُمَّ لك الحمد أنتَ نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنتَ قيوم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنتَ الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق. اللَّهُمَّ لكَ أسلمتُ، وبكَ آمَنْتُ، عليك تَوَكَّلْتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبكَ خاصَمْتُ، وإليكَ حَاكَمْتُ. فاغفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسررتُ وما أعلنت، أنْتَ إلهي لا إله إلا أنْتَ»، فذكر التوسلَّ إليه بِحَمْدِهِ والثَّناء عليه، وبِعُبُودِيَّتِهِ ثم سأله المغفرة.
اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإنسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُها شيءٌ يُحْيي العِظَامَ وهي رَمِيمٌ، نسأَلك أَنْ تَهْدِينا إلى صِراطِك المستقيم، صِراط الذيْنَ أَنْعَمْتَ عَليهم من النَّبيينَ والصِّدِِيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحَينَ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.